فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فبعث الله عزّ وجلّ إليهم هودًا نبيًّا وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم حسبًا وأمرهم أن يوحدوا الله ولا يشركوا معه إلهًا غيره، وأن يكفّوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم فيما تذكر بغير ذلك.
فأبوا عليه وكذّبوه وقالوا: مَنْ أشد منّا قوّة، وبنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين كما ذكر الله تعالى فلما فعلوا ذلك أمسك الله المطر عنهم ثلاث سنين حتّى جهدهم ذلك.
وكانت الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو حرب دعوا إلى الله الفرج وطلبتهم إلى الله عند البيت الحرام بمكّة مسلمهم ومشركهم فتجتمع بمكّة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم وكلّهم معظّم لمكّة عارف بحرمتها ومكانها من الله عزّ وجلّ. وأهل مكّة يومئذ العماليق وإنّما سُمّوا العماليق لأن أباهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان سيّد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له: معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخبيري رجل من عاد الأكبر فلمّا قحط المطر عن عاد وجمدوا قال: جهزوا وفدًا إلى أن يستسقوا لكم فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عقير.
وكان مسلمًا يكتم إسلامه وجهلمة بن الخيبري، قال معاوية بن بكرة: ثمّ بعثوا لقمان ابن عاد بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه رهط من قومه حتّى بلغ عدّة فعدّهم سبعين رجلًا فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكّة خارجًا من الحرم. فأنزلهم وأكرمهم وكانوا إخوانه وأصهاره فأقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهرًا ومقامهم شهرًا، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الذي أصابهم أشفق ذلك عليه وقال: هلك إخواني وأصهاري وهؤلاء يقيمون عندي وهم ضيفي والله ما أدري كيف أصنع بهم إنّي لأستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنون أنّه ضِيق منّي ببقائهم عندي، وقد هلك من ورائهم من قومهم جدبًا وعطشًا، فشكى ذلك من أمرهم إلى قينيتيه الجرادتين فقالتا: اصنع شعرًا نغني به لا يدرون من قاله لعلّ ذلك يحرّكهم.
فقال معاوية بن بكر:
لعل الله يسقينا غمامًا ** ألا يا قيل ويحك قم فهينم

قد أمسوا لا يبينون كلاما ** فيسقي أرض عاد ان عادًا

به الشيخ الكبير ولا الغلاما ** من العطش الشديد فليس نرجو

فقد أمست نساؤهم عيامىً ** وقد كانت نسائهم بخير

ولا يخشى لعادي سهامًا ** وإن الوحش يأتيهم جهارًا

نهاركم وليلكم إلتماما ** وأنتم هاهنا فيما أشتهيتم

قوم ولا لقوا التحيّة والسلاما ** فقبح وفدكم من وفد

فلما قال الشعر غنتهم به الجرادتان فلما سمع القوم قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أطلتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم، وقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله ما تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيّكم وأنبتم إليه سقيتم، فأظهر إسلامة عند ذلك فقال جلهمة بن الخيبري خال معاوية حين سمع قوله وعرف أنّه اتبع دين هود عليه السلام:
ذوي كرم وأُمك من ثمود ** أبا سعد فإنّك من قبيل

ولسنا فاعلين لما تريد ** فإنا لا نطيعك ما بقينا

ورمل والصداء مع الصمود ** أتأمرنا لنترك دين رفد

ذوي رأي ونتبع دين هود ** ونترك دين آباء كرام

ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر وكان شيخًا كبيرًا: احبسا عنّا مرثدًا بن سعد فلا يدخل معنا مكّة فإنّه اتبع دين هود وترك ديننا.
ثمّ خرجوا إلى مكّة يستسقون بها لعاد فلمّا ولّوا إلى مكّة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتّى أدركهم بها فقال: لا أدعو الله عزّ وجلّ بشيء مما خرجوا له، فلما أنتهى إليهم قام يدعو الله وهم قد اجتمعوا يدعون الله ويقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولاتدخلني في شيء مما يدعونك، وكان قيل بن عنز على رأس وفد عاد، وقال وفد عاد: اللّهمّ أعطه ما سألك واجعل سؤالنا مع سؤاله، وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعا لقمان بن عاد وكان سيّد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللّهمّ إنّي جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل الله عزّ وجلّ طول العمر. فعمّر عمر سبعة أنسر. وقال: قيل بن عنز: يا إلهنا إن كان هود صادقًا فاسقنا فإنّا قد هلكنا.
وقال: اللّهمّ إنّي لم أجئ لمريض فأُداويه ولا لأسير فأُناديه، اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه فأنشأ الله عزّ وجلّ له سحائب ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء ثمّ نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ما شئت، فقال قيل: اخترتُ السحابة السوداء فإنّها أكبر السحب، فناداه مناد قد اخترت رمادًا رمددًا، لا تبقى من عاد أحدًا، لا والدًا ولا ولدا، إلا جعلتهم همدًا، إلا بني اللوذية المهدا.
وبنو اللوذية هم بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر فكانوا سكان بمكّة مع أخوالهم ولم يكونوا مع عاد بأرضهم وعاد الآخر كان من نسل الذي بقوا من عاد.
ونادى الله عزّ وجلّ السحابة السوداء التي اختارها قيل: فيها من النقمة من عاد حتّى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24- 25].
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف إنّها ريح امرأة من عاد يقال لها: مهدر، فلمّا أتت عليهم صاحت وصعقت.
فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحها فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] أي دائمة فلم يدع من عاد أحدًا إلاّ هلك.
فاعتزل هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبها ومن ريح إلاّ ما تلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس. وإنها لترتفع بعاد والظعن إلى ما بين السماء والأرض وتدفعهم بالحجارة.
وخرج وفد عاد من مكّة حتّى مرّوا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر. فقالوا له: فأين فارقت هود وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر وكأنّهم شكوا فيما حدّثهم به فقالت هذيلة بنت بكر: صدق ورب مكّة.
وذكروا أنّ مراد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل: بن عنز حين دعوا بمكّة قيل لهم قد أعطيتهم مناكم فاختاروا لأنفسكم إلاّ أنّه لا سبيل إلى الخلود ولابد من الموت فقال مهد: اللهم أعطني برًّا وصدقًا فأعطي ذلك. وقال لقمان: أعطني يارب عمرًا، فقيل له: اختر لنفسك بقاء سبع بعراتسمر من أظب عفر في جبل وَعَر لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر إذا مضى نسر خلف بعده نسر واختار سبعة أنسر فعمر لقمان عمر سبعة أنسر يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة ويأخذ الذكر منها لقوته حتّى إذا مات أخذ غيره، ولم يزل يفعل ذلك حتّى على السابع، وكان كل نسر يعيش مئتي سنة وكان آخرها لبد، فلما مات لبد مات لقمان معه.
وأما قيل: فإنّه اختار أن يصيبه ما أصاب قومه فقيل له: أنّه الهلاك فقال: لا أُبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عادًا من العذاب فهلك.
عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أوحى الله إلى الريح العقيم أن تخرج على قوم عاد فتنتقم له منهم، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور حتّى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب فقال الخزان يارب لن نطيقها، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى الله إليها أن ارجعي فاخرجي على قدر خرق الخاتم فرجعت فخرجت على قدر خرق الخاتم وهي الخلقة.
عن عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أُمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبيت قوم من هذه الأُمّة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قردةً وخنازير وليصيبنّهم خسف وقذف فيقولون: لقد خسف الليلة ببنيّ فلان وخسف الليلة بدار فلان وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادًا بشربهم الخمور وأكلهم الربا وإتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطعهم الأرحام».
وفي الخبر: أنّه أُرسل عليهم من الريح قدر ما تجري في خاتم، قال السدي: بعث الله إلى عاد الريح العقيم فلمّا دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح من السماء والأرض فلمّا رأوها بادروا إلى البيوت فلمّا دخلوا البيوت دخلت عليهم وأهلكتهم فيها ثمّ أخرجتهم من البيوت، فلمّا أهلكهم الله أرسل عليهم طيرًا سودًا فلقطتهم إلى البحر وألقتهم فيه ولم تخرج ريح قط إلاّ مكيال إلاّ يومئذ فإنّها عتت على الخزنة فقلبتهم فلم يعلموا كم مكيالها.
وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة: سمعت عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثبًا أحمر يخالطه مدرة حمراء وسدر كثير بناحية كذا وكذا من حضرموت، قال: نعم يا أمير المؤمنين، والله إنّك لتنعته نعت رجل قد رآه، وقال: ولكنّي قد حُدّثت عنه، فقال الحضرمي: [وما شأنه] يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود صلوات الله عليه.
عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أنّه قال: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيًّا وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة.
وفي رواية أُخرى: وكان النبيّ من الأنبياء إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون معه إلى مكّة بمن معه فيعبدون الله فيها حتّى يموتوا. اهـ.

.قال ابن عطية:

الضمير في قوله: {أنجيناه} عائد على هود أي أخرجه الله سالمًا ناجيًا مع من اتبعه من المؤمنين برحمة الله وفضله، وخرج هود ومن آمن معه حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا {وقطعنا دابر} استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك، والدابر الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم: فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله: {كذبوا بآياتنا} دال على المعجزة وإن لم تتعين لها. اهـ.

.قال الخازن:

{فأنجيناه} يعني فأنجينا هودًا عند نزول العذاب بقومه {والذين معه برحمة منا} يعني وأنجينا أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه لأنهم كانوا مستحقين للرحمة {وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} يعني وأهلكنا الذين كذبوا هودًا من قومه وأراد بالآيات معجزات هود عليه الصلاة والسلام الدالة على صدقه وهذا هلاك استئصال فهلكوا جميعًا ولم يبق منهم واحد {وما كانوا مؤمنين} يعني لأنهم لم يكونوا مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه الصلاة والسلام.

.ذكر قصة عاد على ما ذكره محمد بن إسحاق وأصحاب السير والأخبار:

قالوا جميعًا: كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله تعالى فيهم هودًا عليه الصلاة والسلام الأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان وحضرموت من أرض اليمن وكانوا قد فسقوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي جعلها الله فيهم وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله عز وجل صنم يقال له صداء، وصنم يقال له صمود وصنم يقال له الهباء فبعث الله عز وجل فيهم هودا عليه الصلاة والسلام وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهًا غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فيما ذكر فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس فأمنوا به وهم يسير يكتمون إيمانهم وكان ممن صدقه وآمن به رجل يقال له مرثد بن سعد بن عفير وكان يكتم إيمانه فلما عتوا على الله وكذَّبوا نبيهم وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية واتخذوا المصانع لعلهم يخلدون فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وجهد يطلبون الفرج من الله عز وجل وذلك عند بيته الحرام بمكة مؤمنهم ومشركهم وكان يجتمع بمكة ناس كثير مختلفة أديانهم وكل معظم مكة معترف بحرمتها ومكانها من الله عز وجل وكان البيت معروفًا مكانه من الحرم وكان سكان مكة يومئذ العماليق وإنما سموا العماليق لأن أباهم كان عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيد العماليق يومئذ رجلًا يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري وهو رجل من عاد وكانت عاد أخوال معاوية سيد العماليق فلما قحطت عاد وقلَّ عنهم المطر قالوا: جهزوا منكم وفدًا إلى مكة ليستسقوا لكم فإنكم هلكتم فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صنديد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلمًا يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر سيد العماليق ولقمان بن عاد فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه جماعة من قومه فبلغ عدد وفد عاد سبعين رجلًا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجًا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم عنده وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي نازلون عليّ والله ما أدري كيف أصنع فإني أستحي أن آمرهم بالخروج لما بعثوا إليه فيظنوا أنه ضيق مني بمكانهم عندي وقد هلك مَن وراءهم من قومهم جهدًا وعطشا قال وشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا قل شعرًا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك لأن يحركهم فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ** لعل الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادًا ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس ** نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهمو بخير ** فقد أمست نساؤهم أيامى

وإن الوحش تأتيهم جهارا ** ولا تخشى لعادي سهاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ** نهاركمو وليلكمو تماما

فقبح وفدكم من وفد قوم ** ولا لقوا التحية والسلاما

فلما قال معاوية هذا الشعر وغنتهم به الجرادتان وعرف القوم ما غنتا به قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومك ليتغوثوا بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليه فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه عند ذلك وقال في ذلك:
عصت عاد رسولهم فأمسوا ** عطاشًا ما تبلهم السماء

لهم صنم يقال له صمود ** يقابله صداء والهباء

فبصرنا الرسول سبيل رشد ** فأبصرنا الهدى وجلا العماء

وأن إله هود هو إلهي ** على الله التوكل والرجاء

زاد في الرواية:
لقد حكم الإله وليس جورًا ** وحكم الله إن غلب الهواء

على عاد وعاد شر قوم ** فقد هلكوا وليس لهم بقاء

وإني لن أفارق دين هود ** طول الدهر أو يأتي الفناء

فقال جلهمة بن الخيبري مجيبًا لمرثد بن سعد حين فرغ من مقالته وعرف أنه اتبع دين هود وآمن به:
ألا يا سعد إنك من قبيل ** ذوي كرم وأمك من ثمود

فإنا لا نطيعك ما بقينا ** ولسنا فاعلين لما تريد

أتأمرنا لنترك دين وفد ** ورمل والصداء مع الصمود

ونترك دين آباء كرام ** ذوي رأي ونتبع دين هود

ثم قال جلهمة لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثدًا فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بمكة قبل أن يدعو الله بشيء مما خرجوا إليه فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وبها وفد عاد يدعونه فقال مرثد: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني فيما يدعوك به وفد عاد، وقام قيل بن عنز رأس وفد عاد يدعو فقال: اللهم أعط قيلًا ما سألك.
وقال الوفد معه: واجعل سؤلنا مع سؤله.
وكان قد تخلف عن وفد عاد لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعواتهم قال لقمان فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعا يا إلهنا إن كان هود صادقًا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لقومك ولنفسك من هذه السحاب فقال قيل: قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثرب السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادًا رمددًا لا يبقى من آل عاد أحدًا وساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث لما رأوها استبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل: {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء} أي كل شيء مرت به بأمر ربها وكان أول من أبصر ما فيه وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد فلما عرفت ما فيه من العذاب صاحت ثم صعقت لما أن أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قال رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا فلم تدع من آل عاد أحدًا إلا أهلكه واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس وإنها في وقتها لتمر بالظعن من عاد فتحملها بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل إليه رجل على ناقة في ليلة مقمرة وذلك مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر فقالوا له: أين فارقت هودًا وأصحابه؟: فقال: فارقتهم بساحل البحر وكأنهم شكوا فيما حدثهم به فقالت هذيلة بنت بكر: صدق رب الكعبة.
وقال السدي بعث الله عز وجل على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فلما رأوها تبادروا إلى البيوت فدخلوها وأغلقوا الأبواب، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت فلما أهلكتهم أرسل الله تعالى عليهم طيرًا أسود فنقلهم إلى البحر فألقاهم فيه، وقيل: إن الله تعالى أمر الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل ثم احتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها وفي الحديث: «إنما خرجت على مثل خرق الخاتم» وقيل: إن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل ابن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم أعطيتم مُناكم فاختاروا لأنفسكم غير أنه لا سبيل إلى الخلود ولابد من الموت فقال مرثد: اللهم أعطني برًا وصدقًا فأعطي ذلك، وقال لقمان: اللهم أعطني عمرًا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنر فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من البيضة وكان يأخذ الذكر لقوته فيربيه حتى يموت فإذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان السابع من النسور اسمه لبد فلما مات لبد مات لقمان معه.
وأما قيل فإنه اختار لنفسه ما يصيب قومه فقيل له إنه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعد قومي فأصابه الذي أصاب عادًا فهلك ومَن معه من الوفد الذين خرجوا يستسقون لعاد فأتت الريح لما خرجوا من الحرم فأهلكتهم جميعًا فلما أهلك الله عادًا ارتحل هود ومن معه من المؤمنين من أرضهم بعد هلاك قومه إلى موضع يقال له الشجر من أرض اليمن فنزل هناك ثم أدركه الموت فدفن بأرض حضرموت.
يروى عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أن قبر هود عليه الصلاة والسلام بحضرموت في كثيب أحمر وقال عبد الرحمن بن شبابة: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعين نبيًا وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام في تلك البقعة ويروى أن كل نبي من الأنبياء كان إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله تعالى حتى يموتوا بها. اهـ.